فصل: سورة ق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (13- 18):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
{ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم} الآية. قال ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من الذاكر فلانة؟». فقام ثابت، فقال: أنا يا رسول الله. فقال: «انظر في وجوه القوم». فنظر إليهم، فقال: «ما رأيت يا ثابت؟».
قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: «فإنّك لا تفضلهم إلاّ في الدّين والتقوى»، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالّذي لم يفسح له: {آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا...} [المجادلة: 11] الآية.
وقال مقاتل: لمّا كان يوم فتح مكّة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتّى علا على ظهر الكعبة وأذّن، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم، وقال الحرث بن هاشم: أما وجد محمّدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذِّناً؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره، وقال أبو سفيان بن حرب: إنّي لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربّ السماء.
فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عمّا قالوا، فأقرّوا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم، عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء للفقراء، وقال يزيد بن سخرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمرّ ببعض أسواق المدينة، فإذا غلام أسود قائم، ينادى عليه ليباع، فمن يريد.
وكان الغلام قال: من اشتراني فعلي شرط، قيل: ما هو، قال: ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتراه رجل على هذا الشرط، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كلّ صلاة مكتوبة، ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: «أين الغلام؟». فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: «قوموا بنا نعوده». فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيّام قال لصاحبه: «ما حال الغلام؟».
قال: يا رسول الله، إنّ الغلام لما به، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وهو في ذهابه، فقبض على تلك الحال، فتولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله، وتكفينه، ودفنه، فدخل على المهاجرين، والأنصار من ذلك أمر عظيم، فقال المهاجرون: هاجرنا ديارنا، وأموالنا، وأهالينا، فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام، وقال الأنصار: آويناه، ونصرناه، وواسيناه فآثر علينا عبداً حبشيّاً، فعذر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فيما تعاطاه من أمر الغلام، وأراهم فضل التقوى، فأنزل الله سبحانه: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً} وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج. واحدها شَعب بفتح الشين، سُمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم، كتشعّب أغصان الشجر، والشعب من الأضداد يقال: شعبته إذا جمعته، وشعبته إذا فرّقته، ومنه قيل للموت: شعوب.
{وَقَبَآئِلَ} وهي دون الشعوب، واحدها قبيلة، وهم كندة من ربيعة، وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر البطون، واحدها بطن، وهم كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ، واحدها فخذ، وهم كبني هاشم، وأمية من بني لؤي، ثمّ الفصائل، والعشائر، واحدتها فصيلة، وعشيرة، وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل، وقال أبو رزين وأبو روق: الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد، بل ينسبون إلى المدائن، والقرى، والأرضين، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم.
{لتعارفوا} يعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب، وبعده لا لتفاخروا. وقرأ الأعمش {ليتعارفوا}، وقرأ ابن عبّاس {ليعرفوا} بغير ألف.
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ} بفتح الألف، وقرأه العامة {إنّ} بكسر الألف على الاستئناف، والوقوف على قوله لتعارفوا إنّ أكرمكم {عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} قال قتادة: في هذه الآية أكرم الكرم التقوى. وألأم اللوم الفجور، وقال صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يكون أكرم الناس، فليتّق الله».
وقال: «كرم الرجل دينه، وتقواه، وأصله عقله، وحسبه خلقه»، وقال ابن عبّاس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
أخبرنا الحسن، قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي، قال: حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله المقري، قال: حدّثنا ابن رجاء، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه، فما وجد لها مناخ في المسجد، حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي، فأناخت فيه، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد أيّها الناس، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء وفي بعض الألفاظ: وتعظمها بآبائها إنّما الناس رجلان، برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقيّ هيّن على الله». ثمّ تلا هذه الآية: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ}... الآية، وقال: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم».
وأخبرني الحسين، قال: حدّثنا محمّد بن علي بن الحسين الصوفي. قال: حدّثنا أبو شعيب الحراني. قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله الكابلي. قال: حدّثنا الأوزاعي، قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم، وإنّما أنتم بنو آدم {أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ}».
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن حفصويه، قال: حدّثنا عبد الله بن جامع المقري، قال: حدّثنا أحمد بن خادم. قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا طلحة، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: الله سبحانه يقول يوم القيامة: إنّي جعلت نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلت {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} فأنتم تقولون: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم، أين المتّقون؟ أين المتّقون؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيّوب. قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب. قال: حدّثنا محمّد بن أبي بكر. قال: حدّثني يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عمر، قال: حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقري، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم».
وأنشدني ابن حبيب، قال: أنشدنا ابن رميح، قال: أنشدنا عمر بن الفرحان:
ما يصنع العبد بعزّ الغنى ** والعزّ كُلّ العزّ للمتّقي

من عرف الله فلم تغنه ** معرفة الله فذاك الشقي

{قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، ثمّ من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة، وأظهروا شهادة أن لا إله إلاّ الله، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون، ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأفعال، والعيال والذراري، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، وبنو فلان، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية.
وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح، وهم أعراب مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، كانوا يقولون: آمنّا بالله، ليأمنوا على أنفسهم، وأموالهم، فلمّا استُنفروا إلى الحديبية تخلّفوا، فأنزل الله سبحانه: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} أي انقَدنَا واستسلمنا مخافة القتل والسبي. {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} فأخبر أنّ حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأنّ الإقرار به باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيماناً دون الإخلاص الذي محلّه القلب، وأنّ الإسلام غير الإيمان.
يدلّ عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي، قرأه عليه محمّد بن زكريا في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو العبّاس محمد بن الدغولي، قال: حدّثنا محمّد بن الليث المروزي، قال: حدّثنا عبدالله بن عثمان بن عبدان، قال: حدّثنا عبد الله ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري.
قال: أخبرني عامر، عن سعد بن أبي وقّاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطي رهطاً، وسعد جالس فيهم، فقال سعد: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم، فلم يعطه، وهو أعجبهم إليّ. فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إنّي لأراه مؤمناً، فقال رسول الله: «أو مُسلماً».
فسكت قليلاً، ثمّ غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فوالله إنّي لأراه مؤمناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مُسلماً».
فسكتُ قليلاً، ثمّ غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فوالله إنّي لأراه مؤمناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مسلماً، فإنّي لأعطي الرجل، وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النار على وجهه».
فاعلم أنّ الإسلام الدخول في السلم، وهو الطاعة والانقياد، والمتابعة، يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة. يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأصاف إذا دخل في الصيف، وأربع إذا دخل في الربيع، وأقحط إذا دخل في القحط، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان، كقوله عزّ وجلّ لإبراهيم: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة: 131]، وقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 35-36].
ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله: {ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} بيانه قوله سبحانه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}.
{وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} ظاهراً وباطناً، سرّاً وعلانيّةً {لاَ يَلِتْكُمْ} بالألف أبو عمر، ويعقوب، واختاره أبو حاتم اعتباراً بقوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ} [الطور: 21] يقال ألت يألت ألتاً، قال الشاعر:
أبلغ بني ثعل عني مغلغلة ** جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذبا

وقرأ الآخرون {يلتكم} من لات يليت ليتاً، كقول رؤبة:
وليلة ذات ندىً سريتُ ** ولم يلتني عن سراها ليتُ

ومعناهما جميعاً لا ينقصكم، ولا يظلمكم. {مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ثمّ بيّن حقيقة الإيمان، فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكّوا في وحدانية الله، ولا بنبوّة أنبيائه ولا فيما آمنوا به، بل أيقنوا وأخلصوا.
{وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون} في إيمانهم، لا من أسلم خوف السيف ورجاء الكسب، فلمّا نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفوا بالله إنّهم مؤمنون في السرّ، والعلانية، وعرف الله غير ذلك منهم، فأنزل الله سبحانه {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} الذي أنتم عليه. {والله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} أي بإسلامكم. {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} وفي مصحف عبد الله {إذ هداكم للإيمان} {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنّكم مؤمنون. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} قرأ ابن كثير، والأعمش، وطلحة، وعيسى بالياء، غيرهم بالتاء.

.سورة ق:

مكّية، وهي ألف وأربعمائة وأربع وتسعون حرفاً، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وخمسة وأربعون آية.
أخبرنا أبو الحسين محمد بن القاسم بن أحمد الماوردي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن سادة الكرابيسي، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة، عن سعيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حش، عن أُبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة ق، هوّن الله عليه تارات الموت، وسكراته».
بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 15):

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
{ق} قال ابن عبّاس: هو اسم من أسماء الله سبحانه، أقسم به. قتادة: اسم من أسماء القرآن، القرظي: إفتتاح أسماء الله، قدير، وقادر، وقاهر، وقاضي، وقابض. الشعبي: فاتحة السُّورة. بُريد، وعكرمة، والضحّاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، خضرة السماء منه، وعليه كتفا السماء، وما أصاب الناس من زمرد، فهو ما يسقط من الجبل، وهي رواية أبي الحوراء، عن ابن عبّاس. قال وهب بن منبه: إنّ ذا القرنين أتى على جبل قاف، فرأى حوله جبالاً صغاراً، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: وما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، وليست مدينة من المدائن إلاّ وفيها عرق منها، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني، فحرّكت عرقي ذلك، فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف، فأخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إنّ شأن ربّنا لعظيم، تقصر عنه الصفات، وتنقضي دونه الأوهام.
قال: فأخبرني بأدنى ما يوصف منها. قال: إنّ ورائي لأرضاً مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضاً، لولا ذاك الثلج لاحترقت من حرّ جهنّم. قال: زدني، قال: إنّ جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه، يخلق الله من كلّ رعدة مائة ألف ملك، وأُولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه، منكّسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام، قالوا: لا إله إلاّ الله، وهو قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] يعني لا إله إلاّ الله.
وقال الفرّاء: وسمعت من يقول: {ق}: قضي ما هو كائن، وقال أبو بكر الورّاق: معناه قف عند أمرنا، ونهينا، ولا تعدهما. وقيل: معناه قل يا محمّد.
أحمد بن عاصم الأنطاكي، هو قرب الله سبحانه من عباده، بيانه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقال ابن عطاء: أقسم بقوّة قلب حبيبه محمّد صلى الله عليه وسلم حيث حمل الخطاب، ولم يؤثر ذلك فيه لعلوّ حاله. {والقرآن المجيد} الشريف، الكريم على الله الكبير، الخبير.
واختلف العلماء في جواب هذا القسم، فقال أهل الكوفة: {بَلْ عجبوا}، وقال الأخفش: جوابه محذوف مجازه {ق والقرآن المجيد} لتبعثن، وقال ابن كيسان: جوابه قوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} الآية، وقيل: قد علمنا، وجوابات القسم سبعة: {إِنَّ} الشديدة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] و{ما} النفي كقوله: {والضحى...... مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 1-3] واللام المفتوحة، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] و(إنْ) الخفيفة كقوله سبحانه: {تالله إِن كُنَّا لَفِي} [الشعراء: 97]، و(لا) كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، لا يبعث الله من يموت، وقد كقوله: {والشمس وَضُحَاهَا.. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}
[الشمس: 91] وبل كقوله: {ق والقرآن المجيد} {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} يعرفون حسبه، ونسبه، وصدقه، وأمانته. {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غريب.
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} نُبعث، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه. {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} يقال: رجعته رجعاً، فرجع هو رجوعاً، قال الله سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} [التوبة: 83] قال الله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} ما تأكله من عظامهم، وأجسامهم، وقيل: معناه قد علمنا ما يبلى منهم، وما يبقى لأنّ العصعص لا تأكله الأرض كما جاء في الحديث: «كلّ ابن آدم يبلى، إلاّ عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب» وأبدان الأنبياء والشهداء أيضاً لا تبلى.
وقال السدي: والموت يقول: قد علمنا من يموت منهم، ومن يبقى. {كِتَابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين، ومن أن يدرس، ويبعثر، وهو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدّرة.
{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} بالقرآن. {لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} قال أبو حمزة: سُئل ابن عبّاس عن المريج، فقال: هو الشيء المكر، أما سمعت قول الشاعر:
فجالت فالتمست به حشاها ** فخر كأنه خوط مريج

الوالبي عنه: أمر مختلف. العوفي عنه: أمر ضلالة. سعيد بن جبير، ومجاهد: ملتبس، قال قتادة: في هذه الآية من نزل الحقّ مرج أمره عليه، والتبس دينه عليه. ابن زيد: مختلط، وقيل: فاسد، وقيل: متغير. وكلّ هذه الأقاويل متقاربة، وأصل المرج الاضطراب، والقلق، يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدّين، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال، قال الشاعر:
مرج الدّين فأعددت له ** مشرف الحارك محبوك الكتد

وفي الحديث: «مرجت عهودهم، وأمانيهم».
{أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أي شقوق، وفتوق، واحدها فرج، وقال ابن زيد: الفروج الشيء المتفرّق المتبري بعضه من بعض، وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت، ولا اختلاف {والأرض مَدَدْنَاهَا} بسطناها على وجه الماء {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} لون {بَهِيجٍ} حسن كريم يُبهج به أي يُسر. {تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة، وقال أبو حاتم: نُصبت على المصدر. {وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} يعني تبصر أو تذكّر إنابتها له، لأنّ من قدر على خلق السماوات، والأرض، والنبات، قدر على بعثهم، ونظير التبصرة من المصادر التكملة، والتفضلة، ومن المضاعف النخلة، والبعرة.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} يعني البر، والشعير، وسائر الحبوب التي تحصد وتدّخر وتقتات، وأضاف الحَبّ إلى الحصيد، وهما واحد، لاختلاف اللفظين، كما يقال: مسجد الجامع، وربيع الأوّل، وحقّ اليقين، وحبل الوريد، ونحوها. {والنخل بَاسِقَاتٍ} قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: طوالاً، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: سوقها لاستقامتها في الطول. سعيد بن جبير: مستويات. الحسن والفرّاء: مواقير حوامل، يقال للشاة إذا ولدت: أبسقت، ومحلّها نصب على الحال، والقطع.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، قال: حدّثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني. قال: حدّثنا هشام بن يونس النهشلي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك. قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ: {والنّخل باصقات} بالصاد.
{لَّهَا طَلْعٌ} تمر، وحمل سمّي بذلك لأنّه يطلع. {نَّضِيدٌ} متراكب متراكم، قد نضد بعضه على بعض. قال بن الأجدع: نخل الجنّة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال والدلاء، وأنهارها تجري في عبر أخدود {رِّزْقاً} أي جعلناه رزقاً {لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً}.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن صقلاب. قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب، قال: حدّثني ابن أبي الجوادي، قال: حدّثنا عتيق بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم المطر، فسالت الميازيب، قال: «لا محْل عليكم العام» أي الجدب. {كَذَلِكَ الخروج} من القبور.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرس وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيكة وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} وهو ملك اليمن، ويسمّى تبّعاً لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار فأسلم، ودعا قومه إلى الإسلام، وهم من حِمْيَر، فكذّبوه، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان، قال: أخبرني علي بن أحمد، قال: حدّثنا محمد ابن جرير، وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب، حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخراجها، واستئصال أهلها، وقطع نخيلها، فجمع له هذا الحيّ من الأنصار، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو، فخرجوا لقتاله، وكان تبّع نزل بهم قبل ذلك، فقتل رجل منهم، من بني عدي بن النجّار، يقال له: أحمر، رجلاً من صحابة تبّع، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله.
وقال: إنّما التمرة لمن أبره، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة، يقال لها: ذات تومان، فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه، قال: فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول: والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة، عالمان راسخان، وكانا ابني عمرو، وكانا أعلم أهل زمانهما، فجاءا تبّعاً حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة، وأهلها، فقالا له: أيّها الملك لا تفعل، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولِمَ ذاك؟ قالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة، ورأى أنّ لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما، أنّهما دعواه إلى دينهما، فليتبعهما على دينهما، فقال تبع في ذلك:
ما بال نومك مثل نوم الأرمد ** أرقا كأنك لا تزال تسهد

حنقاً على سبطين حلاّ يثرباً ** أولى لهم بعقاب يوم مفسد

ولقد هبطنا يثرباً وصدورنا ** تغلي بلابلها بقتل محصد

ولقد حلفت يمين صبر مؤلياً ** قسماً لعمرك ليس بالتمردد

أن جئت يثرب لا أغادر وسطها ** عذقاً ولا بسراً بيثرب يخلد

حتى أتاني من قريظة عالم ** خبر لعمرك في اليهود مسود

قال ازدجر عن قرية محفوظة ** لنبي مكّة من قريش مهتد

فعفوت عنهم عفو غير مثرب ** وتركتهم لعقاب يوم سرمد

وتركتهم لله أرجو عفوه ** يوم الحساب من الجحيم الموقد

ولقد تركت بها له من قومنا ** نفراً أُولي حسب وبأس يحمد

نفراً يكون النصر في أعقابهم ** أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد

فلمّا [......] تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا دنا من اليمن ليدخلها حالت حِمْير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم.
قالوا: فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له: ندا، يتحاكمون إليها، فيما يختلفون فيه، فتحكم بينهم، تأكل الظالم، ولا تضرّ المظلوم، فلمّا قالوا ذلك لتبّع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقرّبون به في دينهم، وخرج الحبران، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، ولمّا أقبلت نحو حِمْير، حادوا عنها، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها؛ فصبروا حتّى غشيتهم، فأكلت الأوثان، وما قربوا معها، ومن حَمَلَ ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما، يتلون التوراة، تعرق جباههما، لم تضرّهما، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما.
فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن.
وكان لهم بيت يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلّمون منه، إذا كانوا على شركهم، فقال الحبران القرظيان، وأسماهما كعب وأسد لتبّع: إنّما هو شيطان يفنيهم ويلغيهم، فخلّ بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه كلباً أسود، فذبحاه، ثمّ هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي.
وروى أبي دريد، عن أبي حاتم، عن الرياشي، قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم محمّد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال في ذلك شعراً:
شهدت على أحمد أنّه ** رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره ** لكنت صهراً له وابن عمّ

{كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ} وجب {وَعِيدِ} لهم بالعذاب يخوف كفّار مكّة، قال قتادة: دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبّع، ولم يدمّره، وكان من ملوك اليمن، فسار بالجيوش، وافتتح البلاد، وقصد مكّة ليهدم البيت، فقيل له: إنّ لهذا البيت ربّاً يحميه، فندم وأحرم، ودخل مكّة، وطاف بالبيت، وكساه، فهو أوّل من كسا البيت {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} أي عجزنا عنه، وتعذر علينا الأول فهم في شك الإعادة للخلق الثاني. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث.